بعد كتابي "تركيا والبرنامج النووي الإيراني/ الأبعاد الدولية والإقليمية"، وكتاب "العلاقات التركية- الإسرائيلية وتأثيرها على المنطقة العربية"، تصدر الكاتبة رنا عبد العزيز خماش، كتاب "النظام السياسي التركي في عهد حزب العدالة والتنمية (2002- 2014)"، تتناول فيه نشأة النظام السياسي التركي، ومراحل تطوره وبناءه الوظيفي، وجذوره وعقيدته وأيديولوجيته السياسية، وأثر وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة في طبيعة هذا النظام ودوره ووظائفه.
يقع الكتاب في خمسة فصول، بدأ الفصل الأول في المنهج والإطار النظري الذي اتبعته الكاتبة في دراستها، فتحدثت عن الهدف من الدراسة وأهميتها، والمشاكل التي واجهتها أثناء البحث، بالإضافة إلى المفاهيم والمصطلحات، ورأت أن المشكلة الأهم في البحث، تكمن في معرفة فلسفة حزب العدالة والتنمية ورؤيته المختلفة من الأحزاب السياسية التي وصلت إلى سدة الحكم منذ نشأة الدولة التركية الحديثة، وذلك لطبيعة النظام السياسي ومكانة تركيا ودورها، وأولوية مصالحها في الشرق الأوسط والعالم، الأمر الذي كان له الدور الأهم والأبرز في التغيّرات والتحولات التي طرأت على النظام السياسي التركي.
وبينت المؤلفة أن وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة، جاء نتيجة تراكم تجارب وخبرات الحركات الإسلامية في تعاملها مع النظام السياسي التركي منذ عهد تأسيس الجمهورية (1923-2002)، فقد استطاع الحزب أن يحشد أنصار معظم الحركات الإسلامية وأتباعها، خلف رؤيته وبرنامجه السياسي، عبر إزالة العوائق والقيود المفروضة على ممارستهم وسلوكياتهم الدينية بالتدرج، ودون الدخول في مواجهات مباشرة مع مؤسسات الدولة العلمانية، وعلى وجه الخصوص المؤسسة العسكرية. وأشارت إلى انضمام أغلب أتباع الحركات المختلفة إلى الحزب، بل هم أعضاء فاعلون، ويعتبر انضمامهم نقلة نوعية في طبيعة العمل السياسي للحركات الإسلامية التركية، التي لم يسمح لها بمزاولة العمل السياسي بطريقة مباشرة منذ عقود خلت، حيث تمَّ تحويل الأتباع والمريدين إلى أعضاء ومؤيدين لحزب سياسي يتولى الحكم في الدولة التركية.
النظام السياسي التركي: جذوره وفلسفته
تناولت الكاتبة في الفصل الثاني النظام السياسي التركي من حيث الجذور، والفلسفة التي آمن بها، والمبادئ التي نادى بها. وفي مقدمة تاريخية أشارت إلى أن النظام السياسي التركي الحديث تأسس على بقايا إرث الإمبراطورية العثمانية التي عانت في آخر عهدها من الضعف والانقسامات الداخلية بسبب حركة التغريب، وبروز النزعة القومية، والمؤامرات الخارجية. من هنا سعت المؤلفة إلى الحديث عن الظروف والعوامل الداخلية والخارجية التي أفضت إلى إقامة الجمهورية التركية، فهي أولاً، تناولت نظام الحكم ونشأته مع مصطفى كمال من خلال المجلس الوطني الذي أعلن قيام الجمهورية التركية، وأصبح هو -أي مصطفى كمال- أول رئيس جمهورية مستنداً إلى الشرعية التي اكتسبها من انتصاره في حروب الاستقلال، وإعلانه إعلاء شأن القومية التركية، وتأكيده وحدة الأراضي التركية، وتمَّ صياغة دستور جديد للجمهورية التركية في العام 1924 يتماشى مع التطلعات والأهداف التركية الجديدة، واعتمد الأسس التي طرحها في مؤتمر الحزب الأول وهي: الجمهورية، القومية، الشعبوية، العلمانية ثم أضيف إليها الدولتية والثورية في العام 1931 وعُرفت هذه الأسس بالأسس الكمالية.
وثانياً، تناولت الباحثة القوى السياسية الفاعلة في النظام السياسي التركي مشيرة إلى الأحزاب السياسية وهي: حزب الشعب الجمهوري، وحزب الحركة القومية، وحزب العدالة والتنمية، وحزب الشعوب الديمقراطية. وبرغم الاختلافات الإيديولوجية والفكرية في مبادئ هذه الأحزاب، إلا أنها انضوت تحت دستور وقانون الجمهورية التركية الحديثة.
وأخيراً، استعرضت المؤلفة جماعات المصالح التركية، التي تسعى إلى تحقيق مصالح أفرادها من دون أن تتحمل مسؤولية الحكم بصورة مباشرة، منها (جمعية توسياد- رجال أعمال وصناعيين)، و(جمعية موسياد- رجال أعمال مستقلين)، و(اتحاد الغرف والبورصات التركية)، بالإضافة إلى منظمات المجتمع المدني (اتحاد النقابات العمالية التركية، واتحاد النقابات التقدمية، واتحاد نقابات المحامين الأتراك، ومجلس الصحافة التركي) وجميع هذه الجمعيات والنقابات كان لها الدور المؤثر في صنع القرار السياسي التركي.
الحركات الإسلامية في تركيا
أفردت الكاتبة الفصل الثالث للحديث عن نشأة الحركات الإسلامية في تركيا والعالم الإسلامي على وجه العموم، ورأت أنها قد تأثرت بعاملين رئيسن: أولهما، العوامل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي رافقت ضعف سلطة الإمبراطورية العثمانية، وانحسار تأثيرها الحضاري والثقافي، فيما يسمّى حركة التغريب التي طاولت دوائر الإمبراطورية العثمانية وأنظمتها كافة. وثانيهما، ظهور الحركات كرد فعل على سياسات مصطفى كمال أتاتورك، التي كان همها إلغاء الخلافة، وإلغاء الإسلام كدين للدولة، وإعلان العلمانية، وفرضها على الحياة العامة والخاصة في تركيا، الأمر الذي دفع فاعليات المجتمع التركي إلى مواجهتها من خلال حركات دينية مختلفة، تدعو إلى الالتزام بالإسلام، كإطار مرجعي للنظام السياسي والمجتمع والدولة. لكن هذه الحركات لم تكن موحدة الهدف والرؤية برغم القواسم المشتركة بينها، وذلك لاختلاف ظروفها وبنيتها القانونية والاجتماعية والسياسية والثقافية. ولذلك لجأت الكاتبة إلى تصنيف الحركات الإسلامية في تركيا إلى صنفين: الأول من حيث الأهداف والأبعاد، وهي بدورها تنقسم إلى حركات دينية (الحركة النقشبندية وغيرها) وحركات سياسية (حركة نجم الدين أربكان) وحركات اجتماعية (حركة فتح الله غولن). والثاني: الحركات الإسلامية من حيث الأسلوب والوسيلة، وهي الحركات الإصلاحية كـ(الحركة النورسية)، والحركات الثورية كـ(حركة الشيخ سعيد بيران عام 1925).
وبرغم الاختلافات الإيديولوجية بين سائر هذه الحركات، إلا أنها قامت بدور بارز في إعادة صياغة وعي المجتمع التركي، الذي أرهقته الكمالية واستطاعت أن تبني إرثاً حضارياً وسياسياً واقتصادياً. وقد شكَّل هذا الإرث ركيزة أساسية استند إليها حزب العدالة والتنمية في وصوله إلى السلطة لتحقيق أهدافه وغاياته، مكّنته من بناء قواعد حزبية وجماهيرية تؤهله لأن يكون حزباً جماهيرياً راسخاً في العملية السياسية، ووصل إلى السلطة من خلال الوسائل السلمية والمشروعة، وتجاوز تأثيره الحدود التركية، ليصل إلى مناطق كثيرة في العالم.
طبيعة الصراعات السياسية في تركيا
في الفصل الرابع تتناول الباحثة الصراعات السياسية في تركيا التي نشأت على خلفية التناقضات والاختلافات الجوهرية بين مبادئ النظام السياسي التركي، وبين الموروث التاريخي والثقافي للشعب التركي من مبادئ ومعتقدات وقيم وتكوين ذهني ووعي، مما أدى إلى اغتراب سياسي واجتماعي نجم عنه جدل وصراع في المجتمع والدولة التركيين. وقد ظهر إلى العلن من خلال صراع إيديولوجي بين مؤسسات الدولة المختلفة المتمثلة بالقضاء والمؤسسة العسكرية والإعلام، وبين التيارات الفكرية والسياسية النشطة في المجتمع التركي. كما أنها نزعت الانسجام الاجتماعي والسلام الثقافي والاستقرار السياسي عن المجتمع.
وتمثل هذا الصراع في ثلاثة أنواع هي: الأول هو الصراع العقائدي الإيديولوجي وهو م يتم التعبير عنه بالصراع بين الإسلام والعلمانية، ويشمل محاور أو صراعات ثانوية عدة تنضوي تحته، وهي صراع الهوية بين الشرق والغرب، والصراع المدني- العسكري. وترى المؤلفة أن سبب هذه الصراعات هو التحالف والعلاقة الوثيقة بين المؤسسات المدنية العلمانية والمؤسسة العسكرية، ورؤيتهم المشتركة لمكانة تركيا ومستقبلها كجزء من الحضارة الغربية، واتفاقهم على النأي بتركيا عن الحضارة الإسلامية ومحيطها الشرقي.
والنوع الثاني للصراع هو الصراع القومي بين الكرد والأتراك. وتعزو الكاتبة سبب هذا الصراع إلى تجاهل النظام السياسي الجمهوري التركي للأكراد كأحد المكونات الرئيسة للشعب التركي، وإقراره مبدأ القومية الذي يقوم على تمجيد العنصر التركي على حساب القوميات الأخرى، بمن فيهم الكرد في الدولة التركية، حيث لا يعترف الدستور التركي إلا بالقومية التركية، وتطلق السلطات التركية على الأكراد تعبير "أتراك الجبل"، حسب ما نقلت الكاتبة عن الكاتب رواء زكي يونس في كتابه (التركيب القومي والديني/ دراسة تحليلية).
النوع الثالث والأخير للصراع السياسي في تركيا هو الصراع بين التيارات الإسلامية وتحديداً بين حزب العدالة والتنمية، وحركة غولن. وقد أخذ هذا الصراع أبعاداً كبيرة على الصعيدين الداخلي التركي، والخارجي، كونه لأول مرة في تاريخ تركيا يظهر الخلاف الإسلامي- الإسلامي على السطح. وتنبّه الكاتبة إلى أن الصراع الفكري بين التيارات الإسلامية أدى إلى تحول الصراع من إسلامي- علماني إلى صراع إسلامي- إسلامي باستخدام أدوات وأساليب علمانية. كما أنه يندرج في إطار التحزّب والتحيّز للزعيم الملهم المنقذ - كما تحزب الكماليون لأتاتورك - فقد سعى الطرفان (حزب العدالة والتنمية وجماعة غولن) كلٌّ إلى شيطنة الطرف الآخر، واتهامه بالخيانة والعمالة وتتبع أخطائه، متجاهلين إيجابيات كل طرف، وتاريخهما المشترك، والظروف الحرجة والاستثنائية التي تمر بها البلاد.
التغيرات التي طرأت على النظام السياسي في عهد حزب العدالة والتنمية
شكّل وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة في تركيا منعطفاً تاريخياً في الحياة السياسية بعامة، والنظام التركي بخاصة، حيث يعد حدثاً وحداً فاصلاً في مجرى الحياة السياسية التركية يقسّم المتغيرات والثوابت والفاعلية في النظام السياسي ويصنّفها في حقبتين مختلفتين في البلاد: حقبة ما قبل حزب العدالة والتنمية وهو ما أطلقت عليه المؤلفة (تركيا القديمة)، وحقبة ما بعد حزب العدالة والتنمية، وهو أيضاً ما أشارت إليه المؤلفة بمصطلح (تركيا الجديدة أو الجمهورية الثانية).
وفي ضوء التحليلات التي تناولتها الكاتبة نرى أن الإصلاحات البنيوية التي طرأت على النظام السياسي التركي في بداية تأسيسه لم تكن وليدة عهد أتاتورك، بل لها بعد وعمق في تاريخ الدولة العثمانية، وعلى وجه الخصوص منذ عهد التنظيمات في العام 1839. ومع انفراد أتاتورك بالحكم وإلغاء المظاهر الإسلامية، شهد النظام التركي حالة من الانقلابات العسكرية ليس آخرها انقلاب العام 1980. لكن النظام السياسي التركي شهد الكثير من التحولات مع وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة والحكم، خاصة، بعد تحويل أتباع الحركات الإسلامية من مريدين إلى أعضاء أحزاب سياسية يحملون برامج سياسية واقتصادية واجتماعية شاملة، لمواجهة التحديات الداخلية والخارجية.
وختمت الكاتبة دراستها بجملة من التوصيات تدعو فيها إلى أهمية اتفاق النخب السياسية والقوى الفاعلة والمكوّنات المؤثّرة في المجتمع التركي على صهر كل من العثمانية والكمالية في بوتقة واحدة، لتشكيل هوية جديدة متماسكة تعبّر عن أطياف الشعب التركي كافة، قائمة على المواءمة بين الأصالة والحداثة.
وتأمل الكاتبة من الحكم التركي مراجعة تعاطيه مع الأحداث الداخلية عبر صياغة دستور جديد يتضمن حقوق المواطنة، ومبادئ الديمقراطية، ويعزز الفصل بين السلطات الثلاث وينظمه، وأيضاً، مراجعة شاملة لسياستها الخارجية، بما يتناسب مع الظروف والتطورات، وخاصة الظروف الإقليمية، لتغدو أكثر دينامية وبراغماتية.
الكتاب: النظام السياسي التركي في عهد حزب العدالة والتنمية (2002- 2014)"
تأليف: الدكتورة رنا عبد العزيز الخماش
الناشر: مركز دراسات الوحدة العربية – بيروت – 2016 - 224 صفحة.
عزيزة السبيني كاتبة سورية.
ليست هناك تعليقات